نملية أمي

محمود فهد
المؤلف محمود فهد
تاريخ النشر
آخر تحديث


النملية

 مطبخ أمي... ذلك الركن الصغير في بيتنا الذي كان يعج بالحياة والدفء، هو الآن بالنسبة لي كنز من الذكريات الثمينة، كلما مررت به في خيالي، أشعر أنني أقترب من جزء من روحي الذي تركته خلفي مع مرور السنين. 
  في وسط ذلك المطبخ، تقف "النملية" الزرقاء، التي طالما كانت محورًا لمطبخنا وملاذًا لكل الأسرار الصغيرة.
  النملية... تلك القطعة الخشبية العتيقة التي تحتفظ برونقها رغم الزمن، كم كانت مليئة بالحياة! أراها الآن وكأنها تحمل بين طياتها كل لحظات السعادة البسيطة، وكل لحظات الدفء التي قضيناها في مطبخ أمي. كانت النملية تحتضن بداخلها أكواب الزجاج وأطباق الخزف التي رُتبت بعناية فائقة، وكأنها جواهر ثمينة لا يُسمح لأحد بالاقتراب منها إلا بلمسات أمي الحانية. كانت تلك الأبواب الزجاجية التي تفتحها أمي بأصابعها الرقيقة، تكشف لنا عن عالم من الأشياء البسيطة التي كانت تملأ قلوبنا بالفرح.
  أتذكر تلك الرفرف العلوية من النملية، حيث كانت أمي تُخزن قدور الألومنيوم الكبيرة والصغيرة، كل منها كان له دوره الخاص في صنع ألذ الأطباق. تلك القدور التي شهدت طهي الولائم الكبيرة في الأعياد والمناسبات، حين كانت أمي تضع فيها كل حنانها وحبها، لتخرج منها روائح زكية تملأ أرجاء البيت. 
  كنا نعلم أن يوماً مميزاً في انتظارنا عندما نرى أمي تتسلق الكرسي الصغير لتصل إلى تلك القدور، تُخرجها من مخبئها في أعلى النملية، وتبدأ بإعداد وصفاتها السحرية التي لا يمكن لأحد أن يتقنها مثلها.كم كان ذلك المطبخ يحتضننا بحنانه، وكم كانت النملية هي قلبه النابض. 
  عندما كنا نعود من المدرسة، كان أول ما يستقبلنا هو رائحة الطعام التي كانت تتسلل من شقوق النملية لتملأ المطبخ برائحة الحساء الدافئ أو الخبز الطازج. كان هذا المشهد يعيد لنا الشعور بالأمان، وكأن كل شيء في الدنيا بخير طالما أن أمي تقف في مطبخها، تفتح أبواب النملية وتغلقها بعناية، وهي تحضر لنا وجبة جديدة تحمل بين طياتها حكايات حب لا تنتهي.ولم تكن النملية مجرد مكان لتخزين الأواني، بل كانت جزءًا من حياتنا اليومية. 
 كانت هناك لحظات كثيرة نشهد فيها أمي وهي ترتب رفوفها، تضيف لمساتها الخاصة، تضع تلك الدانتيلات البيضاء على أطراف الأرفف لتحمي الأكواب والصحون وكأنها تحمي أغلى ما تملك. وكان لكل رف من رفوف النملية قصة، لكل قطعة موضوعة فيها ذكرى تربطها بحياتنا. حتى الأصوات التي كانت تصدر من فتح وغلق أبواب النملية، كانت تعزف لنا نغمة مميزة، نغمة تربطنا بكل تلك الأيام الجميلة.
  كم أشتاق لتلك اللحظات التي كانت تجمعنا حول المائدة في المطبخ، والنملية تراقبنا بصمت، وهي تحتفظ بأسرارها القديمة. كانت أمي دائمًا تقول لنا أن النملية تحفظ الخير، وأنا أؤمن الآن أنها تحفظ كل ما هو جميل في حياتنا، كل لحظة قضيناها في ذلك المطبخ المليء بالحب.
  النملية في مطبخ أمي ليست مجرد قطعة أثاث، بل هي شاهد على كل لحظات السعادة والبساطة التي عشناها. هي الحافظة لكل نكهة، لكل رائحة، ولكل ابتسامة خرجت من قلب ذلك المطبخ. هي جزء من هوية بيتنا، جزء من ذكرياتنا التي ستظل معنا إلى الأبد.
  مطبخ أمي، بنمليته الزرقاء، سيبقى دائمًا في ذاكرتي كملاذ آمن، كجسر يصلني بتلك الأيام التي كان فيها كل شيء بسيطًا و جميلًا. و كأن النملية تحكي لي في كل مرة أسترجع فيها تلك الذكريات، عن حكاية الحب الذي زرعته أمي في قلوبنا، وعن العناية التي أودعتها في كل تفصيل صغير، ليظل مطبخنا دائمًا موطنًا للفرح والأمان.

تعليقات

عدد التعليقات : 0